بلال فضل: متى ننصف شهداء وأبطال الثورة.. أقصد ثورة 19

لم يكن غريبًا أن تمر الذكرى السنوية لاندلاع ثورة 1919 في صمت شبه مُطبق، خاصة وقد أصبحنا نعيش في بلد عمل جنرالاته جاهدين، على أن يتحسس المواطن جيبه الفارغ ويشكو حاله الواقف، وينعي حظه العثر، كلما سمع كلمة ثورة، حتى ولو كانت قد حدثت سنة 1919.

حين نقارنها بالكثير من الثورات الشعبية والانتفاضات الجماهيرية التي قام بها المصريون على مدى تاريخهم، سنجد أن ثورة 1919 كانت أسعد حظًا بما حصلت عليه من مكان ومكانة في الذاكرة الجمعية للمصريين؛ ربما لأنها عاصرت نشأة وسائل الإعلام المطبوعة والمذاعة والمصورة، والتي حفظت لنا برغم بدائية تقنياتها، الكثير من وقائع الثورة وأحداثها، ومع ذلك فكما اختزلت كتب التاريخ الرسمية والرائجة مجمل الثورة العرابية في شخص أحمد عرابي وعدد قليل من رفاقه، ونسيت مئات الشهداء الذين سقطوا في معارك الثورة العرابية العنيفة والضارية، ولم يحصلوا حتى على لوحات تذكارية تكرم أسماءهم، في حين حرص الإنجليز على أن يكرموا قتلاهم في موقعة التل الكبير مثلًا، في لوحات تذكارية نصبت في نفس الأماكن التي سقطوا فيها، فقد فعلت كتب التاريخ الرسمية والرائجة ذلك أيضًا في ثورة 19، حين اختزلت كفاح المصريين في عدد محدود من الزعماء السياسيين، على رأسهم الزعيم سعد زغلول، دون أن يتم إنصاف الكثير من أبطال الثورة الذين قدموا تضحيات بأجسادهم وأرواحهم، لم يكن ممكنًا لولاها أن تنجح الثورة، ولا أن يحصد سعد ورفاقه السياسيون النجاح الذي حققوه على مائدة المفاوضات، ومع ذلك فقد كان التجاهل والنسيان مصير أبطال الميادين الثورية، وياليت ذلك حدث بعد موتهم، إذ لهان الأمر وأمكن تبريره، فالأمرُّ والأدهى أنه حدث في حياتهم، وأن كثيرًا منهم “ماتوا بالحيا”، دون أن يحظوا بالإنصاف والتكريم الذي يستحقونه.

لن تجد مثالًا أمرّ ولا أوضح مما حدث مع المناضل الفذ عبد الرحمن فهمي الذي يعتبره كثير من المؤرخين القائد الحقيقي لثورة 19؛ لأن العمليات العنيفة التي قام بها الجهاز السري للثورة، الذي كان يقوده ويشرف عليه، كان لها الأثر الأهم في حسم الكثير من المنعطفات الصعبة التي خاضتها الثورة، وكان يمكن للقوة العنيفة المسلحة التي قابلها بها الإنجليز وعملاؤهم من المصريين أن تجهض الثورة؛ ولذلك فقد كان سعد زغلول بوصفه القائد السياسي للثورة، يحرص على فتح قنوات اتصال سرية بينه وبين عبد الرحمن فهمي ورفاقه، ويستغل ما يقوم به جهازهم السري من عمليات عنيفة ومسلحة، لدعم ما يقوم به على مائدة المفاوضات؛ بل وكان يقترح بعض هذه العمليات ومنها ما كان يتم ضد سياسيين مصريين وصحفهم المناوئة للثورة؛ لأن سعد زغلول ومن خلال معاصرته للثورة العرابية ووقائعها المريرة، كان يدرك أن الثورة لم تكن ستنجح فقط بالمظاهرات السلمية التي تشترك فيها النساء مع الرجال، ويتعانق فيها الهلال مع الصليب، وأنها لو لم يكن لها قدرة على توجيه ضربات عنيفة لأشخاص ومؤسسات ومصالح الإنجليز وحلفائهم من المصريين، لأصبحت أثرًا بعد عين.

وبرغم أن عبد الرحمن فهمي كان يضم في ذلك الجهاز السري عددًا كبيرًا من الشباب الذين تحلقوا فيما بعد حول سعد زغلول، وأصبحوا من أبرز القادة السياسيين للوفد ثم للحركة السياسية في مصر طيلة الثلاثينيات والأربعينيات، وعلى رأس هؤلاء أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي؛ إلا أن سعد زغلول كان قد فرض زعامته الجماهيرية، بحكم الجماهير نفسها، وليس بسعي منه، وفي ظل ذلك بدأت الخلافات تزداد بين سعد زغلول وعبد الرحمن فهمي مبكرًا جدًا، منذ أن رأى عبد الرحمن فهمي أن كل ما يقوله من ملاحظات على الخطوات السياسية لسعد زغلول لا تجد أذنًا صاغية، وأن الوحدة التي كان يجب الحفاظ عليها بعد الثورة قد تفككت، وهو المناخ الذي أسفر عن مصادمات مسلحة بين أنصار سعد وأنصار عدلي في عام 1921 -كنت قد تحدثت عنها في فصل من كتابي (فتح بطن التاريخ)-، وكان عبد الرحمن فهمي قد دخل إلى السجن وقتها في قضية (العقاب الثوري) التي ثأر بها الإنجليز منه ومن رفاقه في التنظيم السري، قبل أن يتفرغوا للتنكيل بسعد زغلول ورفاقه، ليتم نفيهم للمرة الثانية، ولكن هذه المرة إلى جزر سيشل، بعد أن تم نفيهم في بداية اندلاع الثورة إلى مالطا، وهي معلومة يتغافل عنها الكثير من هواة الولولة الثورية، الذين ينسون أن النفي الأكبر لسعد زغلول من مصر كان عقب مراحل عديدة من تطورات الثورة، وفي وقت بدا أن شعلة الثورة قد أخمدت إلى الأبد، وأن الإنجليز وأذنابهم تمكنوا من تحقيق انتصار حاسم على إرادة الشعب، لكن سعد زغلول لم يعد فقط إلى مصر بعد نفيه بعد طلب العفو كما حدث مع أحمد عرابي؛ بل عاد سعد زغلول في عام 1924 رئيسًا للوزارة مكرسًا زعامته شخصًا وحزبًا للأمة المصرية، ليتواصل فصل جديد من فصول الثورة على الاحتلال والاستبداد، لم يكن الأخير بالطبع.

حين أصدر سعد زغلول قرارًا بالإفراج عن عبد الرحمن فهمي وأغلب رفاقه من السجن، خرج عبد الرحمن فهمي ليجد واقعًا جديدًا تمامًا، ليس له فيه مكان حقيقي، حيث تواطأ الكل بما فيهم أقرب أصدقائه ومعاونيه، على إبقائه في الظل بعد نجاح الثورة ووصولها إلى الحكم، لكي لا يؤدي إنصافه إلى تشتيت الأنظار عن سعد زغلول، القائد الذي أصبح رمزًا للثورة، والذي بات من مصلحة البلاد أن تتوحد حوله الأصوات والجهود، ليدخل عبد الرحمن فهمي في حالة من الصمت الاختياري، ويدخل في اعتكاف طويل، حيث بدأ في كتابة مذكراته أو حولياته السياسية، والتي بدا خصوصًا في جزئها الثاني، أنه ممرور للغاية من سعد زغلول، وأن سوء التفاهم الذي وقع بين الاثنين أحدث صدوعًا لا سبيل لرأبها أبدًا.

وحين خلف مصطفى النحاس أستاذه سعد زغلول في زعامة الوفد سائرًا على نفس خطاه، استمر صمت عبد الرحمن فهمي، حتى فاجأ الجميع في عام 1935 بعد احتدام الأزمة السياسية بين شركاء الثورة القدامى، والذين تحولوا إلى خصوم سياسيين لدودين، فأصدر بيانًا ملتهبًا يدعو فيه إلى وحدة الصف، ومع ذلك فقد اختار ألا يقف إلى صف مصطفى النحاس وحزب الوفد، وإنما فاجأ الجميع بثنائه على محمد محمود باشا خصم النحاس والوفد، وقام بعقد لقاءات مع حافظ رمضان رئيس الحزب الوطني وإسماعيل صدقي رئيس حزب الشعب وحلمي عيسى رئيس حزب الاتحاد، معتبرًا أن النحاس يقوم بشق صف الأمة حين يركز على معركة الدستور أكثر من تركيزه على معركة الاستقلال، مناشدًا إياه أن يقوم بتعديل مساره السياسي، لكنه لم يدرك أنه أساء إلى نفسه وإلى تاريخه وإلى نواياه الطيبة بلقاءاته مع سياسيين من نوعية إسماعيل صدقي وحلمي عيسى، لا يتورعون عن تلبية دعوات الملك فؤاد لضرب الوفد بأي شكل ممكن، وأنه أصبح بذلك خصمًا واضحًا ليس لشخص النحاس؛ بل لحزب الوفد الذي كان يرى أن معركة الدستور هي المعركة الحقيقية التي لو انتصر فيها الشعب، سيمكن له أن يصنع مصيره بيديه بعيدًا عن نفوذ الأسرة المالكة والاحتلال البريطاني.

ولأن عادتنا من قديم الأزل ولم نشترها هذه الأيام، ألا نحتفظ خلال خلافاتنا السياسية بقدر الخصوم المختلفين معنا، فقد ساءت الأمور حين قرر عبد الرحمن فهمي تطوير خلافه السياسي مع الوفد، بإعلانه خوض انتخابات عام 1936 في مواجهة مرشح الوفد، ليقوم الوفد بصحافته ونفوذه السياسي والشعبي، بتحويله من قائد حقيقي لثورة 19 يستحق التقدير والاحتفاء، إلى خصم سياسي متحالف مع الفاسدين ومتواطئ مع المتآمرين على إرادة الشعب، ومع أن خوض أي سياسي لمعركة انتخابية ضد الوفد كان أمرًا شديد الصعوبة دائمًا؛ إلا أن أحدًا لم يتوقع أن يسقط عبد الرحمن فهمي عميد الفدائيين المصريين في الانتخابات، ويحصل على 264 صوتًا فقط، برغم تضامن عدد كبير من السياسيين والمثقفين المصريين من كافة الأحزاب لمساندته إكرامًا لقدره، ومع ذلك فقد اكتسح منافسه محمد عبد الصمد أفندي الانتخابات، ليقرر عبد الرحمن فهمي أن يعتزل العمل السياسي مكتفيًا بالكتابة، مصدرًا بيانًا مليئًا بالمرارة قال فيه “وإذا كنت قد أديت الخدمة لوطني في نهضته الكبرى عن طريق اللسان والعمل إلى حد قرب عنقي من حبل المشنقة ومن السجن الطويل والمعاناة الشاقة، فإني أضع اليوم إلى جانب هاتين القوتين، أضع قلمي في الميدان لتكون الخدمة للوطن الخالد باليد والقلب واللسان متجاهلًا خصومة أي إنسان، راضيًا بالعمل حيث يدعو الصالح الوطني العام”، لتكون صورة الخسارة الانتخابية المدوية آخر ما بقي في أذهان معاصريه، ولتتوارى مع الوقت سيرة نضاله الفدائي المبهر، وتدفن في بطون الكتب والمذكرات، ويصبح من آمال كل من قرأ تلك السيرة العطرة، أن يتم تصحيح هذا الخطأ، قبل أن يمر مئة عام على قيام ثورة 19، فينال عبد الرحمن فهمي حقه من التكريم والإنصاف، وتوضع مواقفه كلها في سياقها التاريخي دون افتراء ولا تجاهل.

عبد الرحمن فهمي بطل ثورة 19

عبد الرحمن فهمي بطل ثورة 19

على أية حال، إذا كان يمكن أن نعتبر ما تعرض له عبد الرحمن فهمي من إنكار لدوره الفدائي، أمرًا تسبب فيه دخوله في معترك السياسة واختياره أن يكون خصمًا معلنًا لزعيم ذي شعبية طاغية مثل مصطفى النحاس، فإن ذلك لا يمكن قوله في حالة “الكثيرين من شهداء ثورة 19 الأموات والأحياء، الذين لعبوا أدوارًا هامة في إنجاح الثورة، دون أن يتذكرهم أحد بكلمة طيبة واحدة”، على حد تعبير المؤرخ الصحفي صبري أبو المجد الذي سمح له صاحبا دار الهلال إميل وشكري زيدان في الأربعينيات ولحسن الحظ، أن يتفرغ شهرين كاملين على نفقة الدار، يجوب خلالهما مصر من أسوان إلى الإسكندرية بحثًا عمن أسماهم الشهداء الأحياء من ثورة 19، فيخرج بحصيلة مشرفة ومؤلمة من الأسماء الثورية العظيمة، كان يمكن أن يطويها النسيان التام، لولا أنه حفظها داخل صفحات سفره الضخم (سنوات ما قبل الثورة) بمجلداته الأربعة، والتي لم تعد طبعها الهيئة العامة للكتاب منذ فترة للأسف الشديد.

من تلك الأسماء الثورية التي تواطأ الجميع على ظلمها، يحضرني في البداية اسم البطل أسعد مشرقي الذي لم يكن له من الحظ السعيد نصيب، فقد حوكم خلال أيام الثورة، وقُضي عليه بالإعدام بسبب عملية فدائية قام بها في مدينته ديروط، وبعد ضغوط سياسية عديدة، تم تخفيف الحكم عليه إلى المؤبد، ليبقى في السجن حتى بعد نجاح الثورة ووصول زعيمها سعد زغلول إلى منصب رئاسة الحكومة، حيث رفضت السلطات البريطانية كل طلبات الإفراج عنه، حتى إن العفو الشامل الذي أعلن بمناسبة توقيع معاهدة 1936، و الذي شمل كل المعتقلين لأسباب سياسية أو المقبوض عليهم بتهمة الاشتراك في أعمال مسلحة؛ بل ولم يفرج عنه بعد قضائه ثلاثة أرباع المدة، كما هو المتبع في كل سجون مصر، ليظل في السجن حتى أكمل مدة عقوبته كاملة غير منقوصة.

وحين خرج من السجن، لم يجد الزغاريد والحشود في استقباله، ولم يلتفت إليه أي من شركاء الثورة الذين تقلبوا في المناصب الوزارية والمواقع السياسية؛ بل توارى عن الأذهان، ليكتشفه صبري أبو المجد بالصدفة، ويفاجأ بأن المطاف انتهى به أن يعمل خفيرًا لكوبري المعاهدة قرب مدينة ديروط بمحافظة أسيوط، بعد أن تعذر عليه فور خروجه من السجن العثور على عمل مناسب يضمن له الكفاف من الرزق، ومع أن ذاكرة الإنترنت أصبحت تحتفظ بمكان داخلها لكل من هبّ ودبّ، إلا أنك لو جربت أن تكتب اسم أسعد مشرقي في أي من خانات البحث في الإنترنت، لن تجد سوى الصمت الرهيب إجابة على بحثك.

مصير مؤلم مشابه كان من نصيب بطل آخر من أبطال الثورة هو عبد القادر شحاتة، الذي قضى سنين من عمره في السجن بسبب حكم صدر ضده خلال أيام الثورة، وحين خرج في العفو العام سنة 1936، ظل بعدها لسنين عاطلًا عن العمل، يرفض الكل تشغيله بسبب كونه “رد سجون”، وكأنه كان مجرمًا جنائيًا عتيدًا، وليس مناضلًا ضحى من أجل استقلال بلاده.

وظل وضعه المعيشي مريرًا وسيئًا، حتى جاء اليوم الذي أصبح فيه رفيقه في العمل السري أحمد ماهر رئيسًا للوزارة في أكتوبر 1944، فوصلت حالته إليه عبر فاعلي الخير، ليلحقه بوظيفة في بنك التسليف الزراعي المصري، كانت كل ما ناله بعد سنين من السجن والبطالة، لكن حظه في نهاية المطاف كان أفضل من حظ البطل حسن ياسين الذي كان أول رئيس للجنة الطلبة في تاريخ مصر، والذي بلغ من تألقه الثوري والنضالي أن حصل على عضوية مجلس النواب سنة 1924، وكان وقتئذ طالبًا في كلية الحقوق، ليؤدي أداءً نيابيًا مشرفًا، جعل الملك فؤاد يحرص على ملاطفته في كل مرة يذهب فيها لافتتاح دورة المجلس، اتقاءً لكلماته النارية التي كانت تصيب برذاذها كل المسؤولين، لكن ذلك وكما جاء في رسالة مؤلمة تلقاها صبري أبو المجد من رفيقه المهندس حنفي الشريف، لم يمنع أن ينتهي به الحال “فقيرًا معدمًا حتى إنني رأيته في أواخر أيامه يسير بالقبقاب الخشبي يرتدي روبًا ممزقًا وشعره أشعث في شوارع مصر الجديدة”.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فك باص اوبو A53 ببوكس ايزي جتاج

ذلك العاشق الذي لم ييأس!! قراءة في "ديوان أميرة الوجد" لفراس حج محمّد إبراهيم جوهر*/ القدس الشريف