إذن فقد كان الأمر يتطلب أن تمسك النيران بثياب جهاز المخابرات العامة لكي يخرج مسئول كبير فيها، حتى ولو كان سابقا، ليقول إن ثروت جودة، الذي كان يقدم نفسه بوصفه اللواء وكيل جهاز المخابرات العامة السابق، ليس لواء من أصله، ولم يكن وكيلا لجهاز المخابرات، وإنه خرج على المعاش برتبة عميد عام 2006، بعد أن أدلى جودة بحوار لصحيفة "الوطن" كان يستوجب ما قاله فيه، لو صح، محاكمة كل مسئولي المخابرات في عهد سيء الذكر محمد مرسي، والأهم محاكمة كل من سمحوا بأن ينتسب إلى جهاز المخابرات أناس بهذه العقلية المثيرة للضحك، الذي سرعان ما تبوخ بهجته ليتحول إلى فزع على حال البلاد ومصيرها.
طيب، الآن فقط تكذبون الرجل وقد ظللتم تشاهدونه يتنقل طيلة السنوات الماضية بين برامج الفضائيات يتحدث بصفة الخبير مرددا وقائع يتلقفها الملايين على أنها حقائق لا يرقى إليها الشك، وأنتم صامتون لا تعلقون، ربما لأنكم ترون أن في ما يقوله مصلحة للبلاد، طالما أنه يصب في مصلحة القائد الضرورة الذي يتآمر العالم كله عليه. والآن فقط عندما "تبحبح" جودة حبتين في الكلام وقال إن جهاز المخابرات كان يخفي معلومات مهمة عن رئيس كان منتخبا وشرعيا، قررتم نسف مصداقيته بهذه الحقائق التي كان من حق الناس معرفتها بعد أول يوم ظهر فيه على الشاشات. لكن لا بأس، فأنتم تعلمون أنه لن يحاسبكم أحد عندما سكتم عليه وهو يهري، ولن يحاسبه أحد عندما كذب وهو يتحدث.
لا تحتاج إلى ذكاء حاد لتدرك أن ظهور رئيس المخابرات العامة السابق اللواء رأفت شحاتة في الصورة، لينفي كلام جودة في تصريحات لبرنامج "يحدث في مصر"، كان سببه الزياط الإخواني منقطع النظير بتصريحات ثروت جودة التي اعتبرها الإخوان طوق النجاة لإثبات أنهم لم يكونوا فشلة ولا كذابين ولا خونة لأصوات من عصروا على أنفسهم الليمون وانتخبوهم، كأن مرسي كان يحتاج مثلا إلى تقارير مخابراتية ليعرف أن مهمته الأولى والأهم هي إعادة هيكلة وزارة الداخلية وتطهيرها، بدلا من أن يبارك قيامها بالقتل من أجله ويصفها بأنها قادت العبور الثاني، ويرفع ميزانيتها، ويبقي على كل قياداتها الفاسدة الشائخة، متحججا هو وأنصاره بأن أي فتح لملف الداخلية سيثير أزمات لا قبل له بها، بدلا من أن يحتمي بالذين ساندوه وانتخبوه ووقفوا خلفه، فإذا بالداخلية التي ساندها بدون قيد ولا شرط، تكون أداة الفتك به وبأنصاره، وهو ما اتضح في ذلك المشهد الدرامي الذي قام فيه القيادي الإخواني فريد اسماعيل بتذكير من جاؤوا للقبض عليه بأنه كان دائما يساندهم وهو نائب.
رئيس المخابرات السابق لم يكتف بنفي تصريحات جودة، بل ذكر أكثر من مثال حذر فيه الجهاز مرسي من قرارات خاطئة اتخذها وأصر عليها، لكن نفي الرجل بدا كأنه دفاع عن شخصه ودوره خلال تولي مسئولية الجهاز، فلم نر أي تحرك من الجهاز نفسه لاتخاذ إجراءات قانونية ضد ثروت جودة، ولو حتى بتهمة انتحال صفة ليست له، مما يثير علامات الاستفهام حول علاقة الجهاز بمسئوليه السابقين، وما إذا كان من حقهم أن يتحدثوا على سجيتهم ليسجلوا سابقة جديدة لم تعرفها أجهزة المخابرات في العالم كله.
على أية حال، وحتى يتخذ الجهاز إجراءات رسمية يوضح بها موقفه مما نسبه جودة إليه، يظل حوار ثروت جودة فرصة لتأمل أحوال الدولة المصرية التي يولول الكثيرون خوفا من سقوطها، والتي هجر ملايين المصريين عقولهم وضمائرهم ومبادئهم من أجل أن يحافظوا عليها كما يظنونها قوية شامخة عفية، وهي "صورة ذهنية" لا تتناسب إطلاقا مع الصورة التي يقدمها لنا من ظل يقول على الملأ لسنين إنه وكيل المخابرات العامة.
في حواره يقدم الرجل صورة مختلفة عن الصورة التي حرص كل قادة الجيش المصري على تأكيدها عن الجيش بوصفه مؤسسة مهنية منضبطة تنأى بنفسها عن أوحال السياسة، وتدرك أنها مؤسسة لكل المصريين تحترم إرادة الشعب وتدعم قراره، فهو يقول بالنص إن "تقارير القوات المسلحة قبل 30 يونيو أكدت للسيسي أن 95% من الجيش هينزلوا لوحدهم لو ما أخدش القرار"، وفي حين يحرص المشير عبد الفتاح السيسي دائما على الاحتفاء بأستاذه المشير حسين طنطاوي ويدافع عنه أمام ضباط الجيش، كما شهدنا في أحد لقاءاته التثقيفية التي تم تسريبها منذ فترة، يقدم جودةـ في حواره المسجل كما قالت جريدة الوطن ـ طنطاوي في صورة رجل يتصرف في أمور الدولة حسب مزاجه وهواه، ويصفي حساباته مع عمر سليمان وأحمد شفيق الذي يملك لهما كما كبيرا من "الحزازيات"، بنص تعبيره. ولذلك يتواطأ مع المستشار حاتم بجاتو بالسماح بأن يصل إلى مقعد الرئاسة عميل مخابرات كانت أجهزة المخابرات تمتلك أدلة ضده بأنه يتخابر ضد مصر. وبرغم أن كلام جودة يقال منذ فترة في وسائل الإعلام، إلا أن مجيئه بوصفه معلومات يقدمها رجل يدعي أنه وثيق الصلة بجهاز المخابرات يعتبر نسفا لفكرة وجود دولة يخاف الناس على إسقاطها، لأن الدولة التي تمتلك أجهزة أمنية وسيادية تنفق عليها المليارات من دخلها بدلا من إنفاقها على الصحة والتعليم والطاقة،ومع ذلك تتم إدارتها طبقا للمزاج والهوى و"الحزازيات"، هي دولة سقطت بالفعل: كل الحكاية أنها لم تأخذ بالها بعد أنها سقطت.
طيب، ماذا عن الدولة المصرية في عهد مبارك؟ بالطبع يحاول جودة في حواره بلورة التصور الذي يتم ترويجه إعلاميا عن كون مبارك شخصا عظيما وطنيا رائعا، لكن مشكلته كانت فقط في المقربين منه الذين اعتمد عليهم بعد أن كبر سنه، مع أن ذلك التصور وحده يكفي لمحاكمة مبارك بتهمة الخيانة العظمى لأنه قامر بمصير البلاد بدلا من إنقاذها بترك السلطة في الوقت المناسب. وفي حين يسب ويلعن "أبناء مبارك" ثورة يناير لأنها قامت لإسقاط "الدولة المصرية العظيمة"، فنحن طبقا لتصريحات جودة، الذي يعتبره هؤلاء من خبرائهم الإستراتيجيين، نرى هذه الدولة في صورة مزرية، فجودة يتحدث عن عصابة الأربعة المكونة من سوزان مبارك وابنها جمال وزكريا عزمي وصفوت الشريف الذين كانوا مسيطرين تماما على مبارك وكانوا راغبين في تولية جمال الحكم، واصفا سوزان بأنها كانت تكره جهاز المخابرات العامة، لأنه ليس فاسدا ولا يمكن شراؤه. وإذا كان هذا كلام الخبير المخابراتي فأين هي الدولة التي يبكي عليها الباكون؟ ومن هو الذي كان يرغب فعلا في إسقاطها؟ الثائرون الذين حلموا ببنائها على نضيف، أم زعماء العصابة التي أرادت لها البقاء الدائم في العفن؟
قصائده الجميلة تدل عليه، حين لا يعرفه أحد تماما، ولم تطالعنا صوره أو أخباره في جريدة أو مطبوعة، لكن عماد أبو صالح أيضا يدل على نفسه. لم ينتظر طابور الواقفين أمام دور النشر، لم يزاحم الآخرين على المكاسب والأطماع الصغيرة، وعلى نفقته الخاصة عماد أبو صالح شاعر مصري، يكتب قصيدة النثر، من مواليد المنصورة في شمال مصر عام 1967. يطبع كتبه على حسابه الخاص ويوزعها بنفسه رافضَا بيعها على الرغم من نجاح دواوينه وشعبيته الواسعة بين جمهور قصيدة النثر. لعله من المعروف، والمتواتر، أن (عماد أبو صالح) ظاهرة، بذاتها، في إخلاصه لفنه، وتكريس نفسه لهذا الفن، فلعله أنأى (الشعراء الجدد) الحداثيين بنفسه عن الأضواء، وعن المساجلات – وهي في الغالب عقيمة ولفظية بحت- وهو يطبع كتبه بنفسه، أي علي نفقته، فلا حاجة به لمطالبات ومماحكات بعض الناشرين، وهو يطبعها من خمسمائة نسخة فقط، يوزع منها ثلاثمائة بنفسه أيضاً، ويحتفظ في بيته بمائتي نسخة، كأنما حضورها يؤنس وحشة ما عنده له دواوين أمور منتهية أصلاً 1995 كلب ينبح ليقتل الوقت 1996 عجوز تؤلمه الضحكات 1997 أنا خائف 1998 قبور واسعة 1999 مهندس العالم 2002 جمال كافر، 2005
المازوخية : " يمكنني أن اصرفك متي اشاء ، إلا أنه لا يحق لك أن تتركني بدون إرادتي ، وإذا ما حاولت الهرب ، فإنك تقر لي بالسلطة وبالحق في أن أنزل بك حتي الموت جميع العذابات التي يمكن تصورها. " خارج ذاتي ، لا تملك شيئاً ، فأنا كل شيء بالنسبة اليك ، حياتك ، مستقبلك ، سعادتك ، تعاستك ، عذابك ، وفرحك . " عليك أن تنفذ كل ما سأطلبه منك ، خيراً ام شراً ، وإذا ما فرضت عليك ارتكاب جريمة ، فعليك أن تصبح مجرماً ، كيما تمتثل لإرادتي . " شرفك ملكي ، وكذلك دمك وروحك ، وقدرتك علي العمل . أنا ملكتك ، سيدة حياتك وموتك . " إذا اتفق لك أنك لم تعد قادراً علي تحمل استبدادي ، وإذا ما صارت قيودك أثقل مما ينبغي ، فعليك أن تقتل نفسك ، ولن أعيد إليك ابداً حريتك . " أقسم بشرفي أني سأرغم نفسي علي أن أكون عبد السيدة فاندا دو دونايف ، تماماً مثلما طلبت ذلك ، وعلي أن أخضع ، بلا مقاومة ، لكل ما ستفرضه علي . ليوبولد ، الفارس دو ساشر مازوخ ". ------------- "المازوخية " تأليف ساشا ناخت ،ترجمة : مي طرابيشي. دار الطليعة بيروت ، الطبعة الأولي 1983.ص50 ،51.
تعليقات
إرسال تعليق